الدنمارك بالعربي -أخبار السويد: تضج وسائل الإعلام والصحف السويدية منذ يوم الأحد الماضي بخبر الأم التي احتجزت ابنها لثلاثين عامًا في شقتها في هانينجه في ستوكهولم، ويحاول الجميع إيجاد أجوبة شافية لأسئلة اختلطت بالألم تارة والصدمة تارة أخرى. ولا عجب في ذلك، فالجاني في هذه القصة هي أم سلبت من فلذة كبدها حياة بأكملها، ألحقت بصحته الجسدية والنفسية بالغ الأذى.
بدأت القصة عندما قررت الابنة زيارة منزل والدتها في ستوكهولم بعد مرور نحو عشرين عامًا على غيابها عنه، وكانت الأم في هذه الأثناء في المستشفى على إثر وعكة صحية. صعقت الأخت عندما وجدت شقيقها مستلق على الأرض في حالة صحية يرثى لها وقد ملأت التقرحات جسده وتساقطت أسنانه وبالكاد يمكنه الوقوف، ناهيك عن البيئة السيئة والرائحة القذرة التي أحاطته والفوضى التي كانت تعم المكان.
سارعت الأخت بنقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، وأبلغت المستشفى بدورها الشرطة بالحادثة. توالت المفاجآت والأخبار منذ تلك اللحظة، لكن الصدمة الأكبر كانت في الإعلان عن أن الابن الذي يبلغ من العمر أربعين عامًا الآن، محتجز ومعزول في الشقة ذاتها وفي الظروف السيئة ذاتها منذ ثلاثين عامًا. اعتقلت الشرطة الأم السبعينية بتهمة حرمان ابنها من الحرية بشكل غير قانوني وإلحاق الأذى البدني والنفسي به.
لكن، كيف يمكن لطفل أن يختفي دون أن تشعر مدرسته باختفائه؟ ألم يفتقده أصدقاؤه؟ ألم يشعر الجيران أو الأقارب بان هناك خطبًا ما؟ كيف لطفل أن يختفي تمامًا دون أن يشعر المجتمع بأكمله به؟ وأين دائرة الشؤون الاجتماعية من كل هذا؟ هذه الأسئلة وأكثر تراودت إلى أذهان الكثيرين دون أجوبة واضحة حتى الآن.
تحاول الشرطة والبلدية ووسائل الإعلام جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات وتجميع قطع الأحجية لفهم الظروف التي رافقت حياة هذه العائلة ومعرفة الأسباب التي دفعت الأم لهذا الأمر. فالبلدية تتعاون حاليًا مع الشرطة وتحقق في سبب عدم إبداء أي رد فعل في المدرسة على اختفائه حيث كان في الصف السابع حينها. لكن يبدو أن الشرطة تتحفظ على الخوض في أي تفاصيل في الوقت الرهن إلى حين انتهاء التحقيقات.
بطبيعة الحال، تتحمل المدرسة جزءًا كبيرًا من المسؤولية لعدم اتخاذها لأي إجراء عند اختفائه، خاصة في ظل قوانين التعليم الإلزامي المشددة. لذا بدأت عمليات بحث وتحقيق واسعة في أرشيف المدرسة للوصول إلى وثائق قد تساعد في حل اللغز.
في الوقت ذاته، أجرت وكالات الأنباء لقاءات عدة مع الجيران في الحي الذي تقطنه الأم مع ابنها. وأبدى الجميع صدمتهم ورعبهم من الحادثة، حيث أكد الجميع على أنهم لم يكونوا على دراية بوجود ابن لهذه المرأة يعيش معها في شقتها.
لم تقتصر المقابلات الصحفية على الجيران، بل أجريت أيضًا لقاءات مع بعض المعلمين الذين تمكنوا من تذكر الرجل عندما كان طفلًا يرتاد المدرسة وقبل انقطاعه عنها. فقالت إحدى المعلمات أنها كانت تلاحظ بأنه طفل حزين والأمور لم تكن على ما يرام معه حينها؛ فثيابه كانت متسخة دائمًا ورائحته كريهة، وأشارت إلى أنها كانت تبكي أحيانًا بسبب شعورها بالأسف عليه. تتذكر هذه المعلمة أنها أبلغت إدارة المدرسة بملاحظاتها، وافترضت أنها ستتصرف وفقًا لها.
روى معلم آخر ما يتذكره، حيث قال بأنه كان طفلًا مميزًا ومتفهمًا ولم يكن مصدر إزعاج قط. وذكر بأنه كان يلاحظ بأنه عادة ما يبدو جائعًا جدًا أثناء وجوده في المدرسة. وأكد هذا المعلم أيضًا على أنه أبلغ المسؤولين في المدرسة باشتباهه بوجود مشكلة خلال اجتماع ضم كافة المسؤولين، واعتقد أن الأمر أخذ على محمل الجد حينها. أما زملاء المدرسة الذين تذكروه، فوصفوه بأنه هادئ ومختلف عن بقية الطلاب. وقال أحدهم بأنه كان منبوذًا بين الطلاب ولم يكن يرغب أحد بالجلوس بجانبه.
المقابلة الأبرز كانت تلك التي ظهرت من خلالها الأخت على التلفزيون السويدي ، لتروي تفاصيل دخولها الشقة وعثورها على شقيقها في حالته المزرية. فوصفت منزل والدتها بأنها شقة مظلمة ورطبة ورائحتها مقززة، وقالت بأن التلفاز كان يعمل في غرفة المعيشة عند دخولها، فسمعت صوتًا صادرًا من المطبخ فتوجهت إلى هناك، لتجد أخيها مستلقيًا في الظلام على ضوء مصباح الشارع.
تقول الأخت إن شقيقها استيقظ في نفس الوقت الذي أشعلت فيه الضوء. وعلى الرغم من أنهما لم يلتقيا منذ أكثر من 20 عامًا، إلا أنه تعرف عليها على الفور وردد اسمها مرارًا وتكرارًا. تحدثت الأخت مع شقيقها بهدوء حيث كان يبدو متوترًا وخائفًا بعض الشيء، فحاولت أن تهدئ من روعه وأخبرته بأنها يجب أن تأخذه إلى المستشفى وأنها ستبقى معه طوال الوقت.
وادعت الأخت خلال المقابلة أنها حذرت لسنوات عديدة من عواقب الظرف غير الطبيعي لأمها، وأنها شرحت للمدرسة الوضع مرارًا إلا أن أحدًا لم يصدقها أو يستجب لها.
وأوضحت الأخت أن هذا الوضع لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل بدأ منذ أن كانوا أطفالًا صغارًا. حيث كانت الأم مصابة بهوس حقيقي بابنها وتحاول أن تحيطه بحماية مبالغ بها، ويعود السبب في ذلك إلى حادثة وفاة طفل لها عندما كان عمر الأخت آنذاك عامًا واحدًا. وعندما أنجبت ابنها الثاني سمته باسم أخيه الأكبر وشعرت وكأنها استعادت ابنها المتوفي.
كما أشارت الأخت إلى أن أمها بدأت بعزل أخيها تدريجيًا عن المجتمع في الصف السابع، فبدأت بعزله عن أختيه ثم جده وجدته وكافة الأصدقاء والأقارب. ووصفته عندما كان طفلًا بأنه خجول لكن طبيعي للغاية، وذكرت بأنهما قضيا الكثير من الوقت معًا يلعبان في الخارج.
أطلقت الشرطة يوم أمس سراح الأم وأعلنت أنها لم تعد مشتبهًا به جنائيًا في هذه القضية، فالتحقيقات واستجواب الابن والشهود أكد أنها لم تكن تحبسه أو تعنفه جسديًا وأنه كان قادرًا على مغادرة الشقة متى ما أراد، وأن لا دليل جنائي ضدها. أما الابن فما زال حتى الآن في المستشفى لعلاج التقرحات الجسدية التي كان مصابًا بها عندما عثر عليه، وللتشافي من العملية الجراحية التي أجريت له.
لا ريب في أن هذه القصة مؤسفة وصادمة ومأساوية حقًا، فهذا الرجل كان ضحية اختلال نفسي عانت منه الأم على مدى سنوات، وضحية إهمال لا يمكن تبريره من المدرسة والبلدية والسلطات الاجتماعية. فهل من أمل لتدارك حالته الصحية والنفسية، أم لا يصلح العطار ما أفسد الدهر؟